بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
في إطار مواصلة جلالة الملك جهوده لتوسيع برامج وأوراش الحماية والدعم الاجتماعيين، وإرساء المقاربة الإدماجية والتكاملية بين القطاعات المتدخلة في التنمية البشرية بما يسمح لكافة المواطنين من مختلف الفئات والجهات بالاستفادة من الخدمات الاجتماعية وتيسير سبل الولوج إليها، وتكريس العدالة الترابية، ترأس جلالته نهاية الأسبوع الفارط حفل توقيع اتفاقية شراكة بين مؤسسة محمد الخامس للتضامن ووزارة الصحة والحماية الاجتماعية وشركة متخصصة في التكنولوجيات الحديثة بهدف إطلاق برنامج الوحدات الصحية المتنقلة المجهزة بتقنيات الاتصال عن بُعد من أجل تحسين ولوج ساكنة العالم القروي للخدمات الصحية.
وبإطلاق هذا الورش الاجتماعي الهام الذي ستستفيد منه الساكنة القروية البعيد مجالها الجغرافي عن المراكز الحضرية، يخطو المغرب خطوات ثابتة في تعزيز العدالة الترابية والمجالية بالتوزيع المتكافئ للخدمات بين المواطنين التي تعاني من بعد الخدمات الصحية، وتبدأ عمليات تحسين مؤشرات الحياة والعيش الكريم والتنزيل الفعلي والاستراتيجي للنموذج التنموي الجديد، في كل أبعاده القطاعية المتداخلة والمتشابكة والتي يحيل بعضها إلى بعض.
إن الشكل الإبداعي الخلاق الذي باشر به جلالة الملك العمل على ورش التغطية الصحية والدعم الاجتماعي اللذين يلامسان حاجيات كافة الفئات والجهات ويستجيبان للخصوصيات الترابية الإقليمية والجهوية، يمكن المغرب من خلق فرص كبيرة للتدخل من أجل تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية التي تعمق الحرمان والعوز والإقصاء، وتعوق فئات عريضة من المواطنين عن الاستفادة من مخصصات التنمية البشرية ومن الثروات الموظفة في سبيل إلحاق كل أبناء الأمة من غير استثناء بركب التقدم.
هذا الشكل الفريد والجديد غير المسبوق في منظومتنا الصحية، للتدخل العلاجي والطبي والاستشفائي لفائدة ساكنة العالم القروي، صمم وفق ثلاث دعامات أولاها الفرق والأطقم والوحدات الصحية والمعدات الطبية التي توفرها وزارة الصحة وتضعها رهن إشارة هذا البرنامج، وثانيها آليات وتقنيات الاتصال والمعلوميات الموظفة لفائدة تيسير وتسهيل التبادل والتقاسم بين الأطباء والمرضى لتقليص كلفة التنقل والعلاج والتمتع بخدمات تزاوج بين تقديم العلاج عن قرب والتطبيب والاستشارة الطبية عن بُعد، وهي الخدمات المعلوماتية التي توفرها شركة متخصصة هي شركة ميديوت تكنولوجي، وثالثها الخبرة الكبيرة في تنظيم القوافل الطبية لفائدة ساكنة البوادي والقرى والفئات المعوزة والهشة، والتي راكمتها مؤسسة محمد الخامس للتضامن لما يقرب من ربع قرن من الزمن، منذ انطلاق عمليات تدخلها الاجتماعي التضامني خصوصا في العالم القروي. فهذا الشكل الإبداعي الخلاق للتدخل الصحي وتقديم الخدمات الصحية للمواطنين في أبعد نقطة عن المراكز والمدن المأهولة، لم يُبْنَ من فراغ وإنما من تراكم الخبرات الوطنية وتشبيكها ومن تثمين للنتائج الإيجابية الناجحة التي حققتها في مجالات قريبة أو لصيقة بالعمل التضامني والاجتماعي أو بمجتمع المعرفة والاتصال، وعلى رأس هذه التجارب ما راكمته مؤسسة محمد الخامس للتضامن من خبرات في مجالات الإسعاف والتدخل وتنظيم قوافل الزيارات التضامنية إلى المناطق والأقاليم البعيدة والمترامية الأطراف في البوادي والقرى والفجاج والجبال.
إن التحقيق العملي والميداني لشعار “الصحة للجميع” ولكافة شعارات الحق في المواطنة الكريمة وعلى رأسها الحق في الولوج للخدمات وتقريبها من الساكنة، يتطلب مجهودات من الدولة والمجتمع وتحمل أعباء إضافية لبلوغ الغاية النبيلة لهذه الشعارات الحقوقية، وقد وفق جلالة الملك واهتدى إلى نموذج لخارطة الطريق رائدة في هذا البرنامج الصحي، وما على الفاعل الحكومي وكافة المؤسسات الشريكة في هذا البرنامج وفي غيرها من برامج العدالة المجالية إلا أن تحتذي حذوه في إطلاق مبادرات خلاقة تكشف بالفعل عن درجة الاهتمام العملي بتنزيل وعود النموذج التنموي المغربي الجديد، وتحقيقها على أرض الواقع.
فطموح هذا الورش والبرنامج الصحي يتعدى ويتجاوز مرحلة إطلاقه وانطلاقته التي تغطي فترة زمنية مقررة ومقدرة في سنة، كما تغطي عددا تجريبيا من الأقاليم والجهات المستفيدة (40 إقليما) في أفق توسيعه لباقي الأقاليم والجغرافيات المتباعدة والمتفاوتة الحظوظ في الاستفادة من هذا الحق في العلاج والخدمات الصحية، وإنما طموحه في أن يصير مثالا مصغرا لما ينبغي أن يكون عليه التنسيق والتشبيك والإدماج في عدد من القطاعات الاجتماعية والتنموية بين الموارد البشرية والمادية المتوفرة، وبين التكنولوجيات الحديثة المتطورة خصوصا التكنولوجيات المعلوماتية للاتصال، والخبرات والتجارب الناجحة التي يمكن البناء عليها واستثمارها وتطويرها خصوصا تجارب المؤسسات الاجتماعية وهيئات ومنظمات المجتمع المدني.
هذه هي الرسالة العميقة لمبادرة ملكية رائدة في سبيل العدالة الترابية والمجالية التي تتقلص بها الفوارق الجغرافية والاجتماعية بين الجهات والأقاليم الوطنية، تبدو قطاعية في الظاهر ولكنها في العمق خطوة واثقة وراسخة لخطوات أخرى ممكنة في العمل المؤسستي على تقريب سائر الخدمات من المواطنين، سواء تعلق الأمر بالخدمات الصحية أو بغيرها من الخدمات في قطاعات أخرى مثل الإدارة والتعليم والعدل والبناء والتعمير والتشغيل، وتعفيهم من مشقات السفر والتنقل للحصول على الخدمة، مع ما يترتب عن ذلك من تكاليف مادية ومالية تزيد عن التكاليف التي تؤديها ساكنة المدن للاستفادة من خدمات الدولة ومن حقوق المواطنة. فتحقيق العدالة المجالية أو الترابية بكل ما تعنيه من فك العزلة عن أقاليم، ومن استفادة كل المناطق الجغرافية والجهات والأقاليم مهما تباعدت، من حظوظها في ولوج خدمات الإدارة ومن فرص التنمية ومن حقوقها في المواطنة، هو رهان ديموقراطي وطني وأساس دولة المواطنة والحق والقانون، الراعية للفرص المتساوية والمتكافئة لمواطنيها إلى إشباع حاجاتهم وتحسين ظروف عيشهم.