اعتقد كل المهتمين بالعلاقات المغربية الجزائرية أنه لم يعد في أجندة الجزائر لا الديبلوماسية ولا السياسية ولا الرياضية ولا الاقتصادية ولا حتى الجغرافية والتاريخية شيء اسمه المغرب، منذ أن تقرر ومن طرف العصابة الحاكمة في الجزائر، قطع العلاقات نهائيا مع هذا البلد الجار الذي لم يعد جارا، بسبب ما ادعته العصابة من استفزازات هذا الجار الغربي، بلغت، حسبها، مبلغا لا يطاق من العدوان والتآمر والاستهداف، ولم يعد ممكنا إلا “إغلاق وسد الباب الذي يأتيك منه الريح إلى الأبد لتستريح” كما قال تبون الرئاسة ذات يوم مشهود من أيامه الإعلامية ووقائعه التواصلية مع صحافة بلاده، حتى أنه تم زجر فاعلي الخير من الوسطاء العرب والدوليين ليكفوا عن التوسط أو التدخل من أجل الصلح أو العودة إلى علاقات طبيعية تبدد الخلافات مهما كانت شدتها، وخرج غير ما مرة وبشكل انفعالي بالغ الحدة مسؤولون في دولة العصابة ليؤكدوا أمام الرأي العام العربي والدولي أن الاهتمام بالمغرب صار من الماضي السحيق، وأن الجزائر تنظر بعين الغضب والرفض لأي حديث اليوم أو غدا عن وساطة في موضوع انتهى إلى غير رجعة، وأن قطع أي ارتباط مع المغرب لا رجعة فيه أو عنه… الأمر الذي يعني من الناحية الأخلاقية وفي آداب وأعراف النبالة والشهامة والكرامة والأنفة والعزة التي تتغنى بها العصابة، أن ثمة أمرا جلالا لا يقبله عزيز ونبيل، يقضي بسد كل فم، وعقل أي لسان، وتقييد أي نظر في اتجاه مغرب شُطِب بشكل تام من تاريخ العلاقات الجزائرية، لتنصرف الجزائر إلى حال سبيلها من غير التفات لا إلى ماض دُفن، ولا إلى مستقبل ممكن لهذه العلاقات. وبدأ، ومن أول يوم إعلان القطيعة النهائية، تنفيذ مخطط الشطب والمحو، وإقامة الحواجز والجدران والأسلاك الفاصلة، وتعقب أي خيط متبق من هذه العلاقات والصلات والروابط لاستلاله وقطعه، فأغلقت الحدود برا وجوا وبحرا، وقطع أنبوب الغاز المغاربي الأوروبي الذي يمر من الجزائر عبر المغرب قطعا، وبدون أدنى اعتبار لأي مصلحة مشتركة مع الدول الشريكة، كما قوطع المغرب في أكثر من لقاء، إلا ما فرضته الضرورة من التزامات الجزائر مع المجموعة العربية أو القارية أو الدولية في المجامع السياسية أو الديبلوماسية أو الرياضية. وبالكاد، وبعد تدخلات وتحذيرات من الإخلال الجزائري باستحقاقات وتعهدات، تقبل العصابة الحاكمة في الجزائر أن يجمعها بالمغرب جامع، من كرسي مقابل، أو مجلس للنقاش والتداول، أو ميدان وحلبة لمباراة رياضية مبرمجة، وفوق طاقة الجزائر على تحمل مقاطعتها أو معاكستها، لكن بالمقابل لا تخلو من مساعي العصابة الحاكمة لتقزيمها ونسفها ومحاولة التأثير في الحضور المغربي خلالها.
وكم مرة شهدنا أعمال الضيق والنفور والشغب والمضايقات للتعبير عن عدم الارتياح الجزائري من حضور العدو المغربي أو مشاركته إلى جانب القوة الضاربة لجاره الشرقي، بدءا من قمة الجامعة العربية المنعقدة في الجزائر، والتي كادت أن تلغى، بسبب فرض العصابة أجندتها الشاطبة للمغرب من الحضور أو ملاقاته أو استقبال ممثليه ومبعوثيه إلا على مضض وبتعمد كبير للثأر والإساءة، وانتهاء بالرياضة وحكايات الفرق والمنتخبات الرياضية المغربية التي عانت ولا تزال من ويلات وتعسفات واستفزازات وخروقات العصابة بشأن مشاركاتها في تظاهرات رياضية قارية أو عربية أو دولية تقام على أرض الجزائر، ولا تنظر العصابة الحاكمة فيها بعين الرضى أو حتى الحياد للحضور المغربي، وتعمل كل ما في وسعها للإساءة للضيف المغربي غير المرحب به، ولم يسلم منهم براعم الرياضيين من الصغار والفتيان الذين ضُربوا وسُبوا وشتموا ونقلت وسائل الإعلام وقنوات العصابة كلاما ساقطا وجارحا في حقهم، لا لشيء إلا أنهم يُذَكِّرون العصابة بأن ثمة شيء باق من هذا المغرب الذي تدعي غرقه في العزلة والنسيان جراء قطع العلاقات معه والذي يعني في عرف العصابة قطع أوصاله…
كل ذلك لأن جزائر العزة والكرامة والسيادة جعلت معاداة المغرب ضمن قيمها ومبادئها وسيادتها، بل اختزلت وجودها في عدم المغرب، وسمعتها وشرفها في عدم السماع من المغرب أو عن المغرب، ولذلك لا تقدم نتائج مبارياته الرياضية التي تنقلها وسائل إعلامها حتى وإن كانت حاسمة، ويتم نقل أخبار مغلوطة أو مشوشة بدلها، كالقول إن فريقا ما وبصيغة المجهول لعب مباراة، وفي أقصى الحالات تشطب هذه المباراة من لائحة الإعلانات ويتم تجاهلها، وقس على ذلك كل المشاركات المغربية في تظاهرات أو لقاءات في مختلف مجالات العلاقات الدولية والقارية والعربية تكون فيها الجزائر شريكا أو عضوا أو مستضيفا أو منظما أو متدخلا، يكون حضور المغرب في حد ذاته عين الاستفزاز الذي اشتكت منه العصابة الجزائرية، وبسببه قطعت العلاقات، فكيف تقبل بعد أن سدت كل الأبواب والنوافذ أن تفتح كوة لرؤية هذا الوجه المغربي المستفز؟
إلى هنا تبدو أمور قطع العلاقات مع هذا المغرب الذي لا يطاق سماع اسمه أو رؤية رسمه، عادية ومتطابقة ومتوافقة مع العقيدة والمبادئ والسيادة التي تؤمن بها العصابة وحسب منطقها الخاص في تعريف السيادة، لكن ما يلفت الأنظار إلى طبيعة وواقع قطع العلاقات بين البلدين ومن طرف واحد لم يتحمل مسؤوليته في صنيعه بنفسه، أن العصابة الحاكمة في الجزائر لم تكل أو تكف يوما بل ساعة ودقيقة، في اليقظة والمنام، منذ قطع العلاقات، عن الهيام بالمغرب، والتفكير فيه، وتوجيه الأنظار إليه، وربط كل حدث في الجزائر به، مما يعني ربط علاقات من نوع آخر به، حتى باتت الجزائر لا تتنفس إلا تحت الماء المغربي. وبمناسبة ذكر الماء، وبعد ذكر الجراد ومرض البيوض الذي يصيب النخل الجزائري والقادِمَين من المغرب، وذكر المخدرات والمهلوسات التي تغرق شباب الجزائر والقادمة بدورها من المغرب، حسب رؤية العصابة للعلاقات الجديدة التي تبنيها مع الجار الغربي، فإن شح المياه في الجزائر، تتجه فيها أصابع الاتهام مباشرة وبدون أدنى نظر أو جدل إلى العلاقات مع المغرب، ويتم التفكير في ربط هذا الجفاف والتجفيف وشح المياه به، حيث أقدم ما يسمى بوزير الري في دولة العصابة، في آخر خرجة تفكيرية وتحليلية وتأملية للعصابة التي عينته، على استحضار المغرب وإحضاره لتوجيه اتهامه إليه بالتسبب في جفاف الوديان والأنهار الجزائرية، والزعم أن المغرب يقطع العلاقات والصلات الطبيعية بين منابع مائه ومصبها في الجزائر، ويتسبب في تعطيش الإنسان والحيوان الجزائريين، وخراب البيئة ودمارها. كان ذلك في المنتدى العالمي للماء المنعقد بدولة أندونيسيا تحت شعار: “الماء من أجل ازدهار مشترك”، وحيث كل الدول المشاركة بما فيها المغرب تقدمت برؤى ومبادرات واجتهادات لحلول “مشتركة” لأزمات المياه وتحدياتها، إلا ممثل العصابة قاطعة العلاقات والأرحام و”المشترك”، لم يجد في جعبة حكومته ولا دولته ولا نخبها المفكرة، ما يتقدم به من حلول “مشتركة” لدرء مخاطر شح المياه وتدبير تحدياتها، والبحث عن بدائل ملهمة، إلا التشكي من المغرب “الشريك في الماء”، ويرفع إلى الدول المشاركة في المنتدى طلبا بفتح مياه المغرب على الجزائر لإرواء عطش “النبات والإنسان والحيوان” كما وصف ذلك بالحرف. أي بصريح العبارة طلب فتح الحدود لتدفق المياه، وهي الحدود نفسها التي فاخرت العصابة بسد ريحها وهوائها وترابها ومائها وأنابيب غازها، ونهرت كل طلب للوساطة والتوسط والتدخل.
فلم تطلب العصابة إذا هذه الوساطة المائية وهذا الفتح للمياه، ولم هذه الهرولة الدائمة نحو المغرب في قناع الاتهام وفي محاولة دائمة للحديث عن المغرب ومع المغرب وفي المغرب وحول المغرب، مع ادعاء التمنع والخصومة والقطيعة النهائية والفرح بالباب المسدود المريح من الريح كما قال تبون.
لا تعني مداخلة وزير ري العصابة إلا أنها متشبثة بتلابيب المغرب لا تغادره ولا تنساه في ادعائها قطع العلاقات الرسمية، فهي في حاجة إليه كشماعة لتعليق أخطائها، وفي حاجة إليه لترويض شعبها على الكراهية، وفي حاجة إليه لاستمداد التراث وإنعاش الجذور، وفي حاجة إليه لسرقة مياهه وثرواته وتنفيس أحقادها، وفي حاجة إليه للنظر في مرآته والأكل من موائده، وفي حاجة إليه للحكم وتثبيت الكراسي، فعن أي قطع للعلاقة نتحدث؟ وعن أي مغرب منسي ومتروك ومطروح نتحدث، وهو يسكن جوارح العصابة ويظهر في الكوابيس والأحلام، ويحمل في الملفات والحقائب، ويجري في الدماء، ويظهر في النجوم والأقمار، وفي الحجر والشجر وفي نيران الغابات وجراد الصحاري؟؟ وكلما همت الجزائر بأمر أو واجهت أمرا غيره، إلا وكان المغرب الذي روجت لقطع أي علاقة معه، رفيق دربها في اليقظة والمنام والشدة والرخاء.